مما لا شك فيه بأن أزمة انتشار فيروس كورونا كان لها تأثير مباشر على الإدارات المالية للشركات، حيث يعد التمويل العامل الأساسي في اتخاذ كل التدابير للتعامل مع آثار الوباء سواء كانت إدارة مخاطر أو التدفق النقدي أو رأس المال البشري أو حتى البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والخطط والتحليلات المالية .
مما يستوجب على المدراء الماليين القيام بإجراءات ذكية وحاسمة لضمان قدرة مؤسساتهم على تحمل النفقات المالية المتزايدة خلال فترة انتشار الفيروس و اتخاذ تدابير الإدارة المالية المثلى لمواجهة الأحداث غير المتوقعة في المدى القصير والطويل على حد سواء.
ويتمثل الجانب الإيجابي هنا بأن أدوات التعامل مع المشاكل الحالية التي تواجه التدفق النقدي والسيولة المالية قد تطورت عما كانت عليه في العشر سنوات الماضية. حيث قامت الكثير من المؤسسات بتحسين وتطوير أدوات الوصول إلى المعلومات وتحليل البيانات بالإضافة إلى استراتيجيات توقع و إدارة المخاطر. والذي يساهم بدوره في تسريع وتبسيط عمليات التواصل بين مختلف إدارات المؤسسة وكذلك عمليات التواصل مع الموردين والمستهلكين والمؤسسات المالية .
و تجدر الاشارة الان الى ان انظمة تخطيط موارد المؤسسات الحديثة تقدم رؤية واضحة لإجراءات الشراء و الدفع والطلب . بالإضافة إلى ذلك توافر إمكانية استخدام الحوسبة السحابية في التحول الرقمي ومراجعة المستندات و الإشراف على السيولة النقدية في كل مستوى من مستويات التعاملات الفردية.
يعاني المدراء الماليين بشكل عام من تأثيرات جائحة كورونا على مؤسساتهم. ويدعم هذه الرؤية استطلاع شمل 867 مدير مالي في 24 دولة مختلفة قامت به شركة PricewaterhouseCoopers حيث تتجسد أكبر مخاوف المدراء الماليين في الولايات المتحدة والمكسيك، بإمكانية أن يؤدي فيروس كورونا إلى ركود اقتصادي عالمي. و على الرغم من ذلك فإن نسبة 90٪ من المدراء الماليين الذين شملهم الاستطلاع متفائلين بأن أعمالهم ستعود إلى وضعها الطبيعي في غضون ثلاثة أشهر في حالة انتهاء أزمة فيروس كورونا اليوم.
في حين أن 54٪ من المدراء الماليين الذين شملهم الاستطلاع يرون أن هذا الوباء يمكن أن يؤثر بشكل كبير على أنشطتهم وأعمالهم ، بينما يتوقع 58٪ منهم انخفاضاً في إجمالي الحركة و أرباح المؤسسة خلال العام الحالي. و من ناحية أخرى، أشار 34 ٪ من المدراء الماليين إلى أن أثر الفيروس اقتصر على أجزاء معينة من المؤسسات ولكنهم في متابعة دائمة للوضع عن كثب.
وفي الشرق الأوسط، وجدت هذه الدراسة أن 67٪ من المدراء الماليين الذين شملهم الاستطلاع مقتنعون بأن جائحة فيروس كورونا لديها القدرة على التأثير بشكل كبير على مؤسساتهم. وكان المدراء الماليين في دولة الإمارات العربية المتحدة هم الأكثر قلقاً في المنطقة (بنسبة 77%)، فيما يشعر نظراؤهم في المملكة العربية السعودية بأن الأثر يقتصر على مجالات محددة في أعمالهم.
حيث يشكل الأثر المالي عامل القلق الأكبر للمدراء الماليين في منطقة الشرق الأوسط، إذ يتوقع 78% منهم حدوث تراجع في الإيرادات كنتيجة حتمية لهذه الجائحة.
في استطلاع أجرته ( Sheffield Haworth ) وهي شركة استشارية عالمية للمواهب استهدفت المدراء الماليين في كل من الشركات المتوسطة والصغيرة ومؤسسات الإقراض الاستهلاكي و الخدمات المصرفية للأفراد. حيث رأى أحد المدراء الماليين بأن الأزمة الحالية تمثل تحدياً إدارياً وفكرياً في الوقت ذاته.خاصةً مع وجود هذا القدر الكبير من الضغط والمسؤولية التي يتعرض له المدراء التنفيذيون، والذي يساعد بدوره في الكشف عن نقاط القوة والضعف داخل المؤسسات.
ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار، تتضمن التحديات الرئيسية التي يواجهها المدراء الماليين خلال الازمة الحالية ما يلي:
- الاضطرابات والتغيرات التي تطرأ على طاقم العمل و الموظفين وضرورة التحول الرقمي للمؤسسة.
- تحديات السيولة والتدفق النقدي.
- المخاطر الناجمة عن الأزمة.
- الحاجة إلى تطوير عمليات التنفيذ و المتابعة
مما لا شك فيه أن أزمة فيروس كورونا تتطلب التشديد والانتباه على صحة وسلامة الموظفين و العاملين في المؤسسة، الذين قد يتعرضون يومياً إلى تغييرات وتحديات غير مسبوقة.
هذا بالإضافة الى تأثر عمليات المساندة من موظفي الإدارة والدعم نتيجة لفرض معايير التباعد الاجتماعي كتدبير وقائي ضد فيروس كورونا المستجد.
يمثل الحفاظ على التدفق النقدي وضمان وجود السيولة المالية في الشركة لحماية سير الأعمال الأولوية القصوى للمدراء الماليين في المملكة العربية السعودية وخاصة في الشركات ذات مستوى دين عالي ( نسبة ديونها إلى أصولها مرتفعة) .
و تعتمد هذه الرؤية على واقع بأن تكلفة التمويل قد ارتفعت بالفعل، في حين أن إصدار الأسهم لتمويل نشاطات الشركة يعد خيار غير مقبول بالنظر إلى الانخفاضات الكبيرة في أسعار الأسهم، وزيادة تقلبات السوق والتحديات في توقع الأرباح.
وبالرغم من موافقة البنك الوطني على ضخ رؤوس أموال ضخمة لتوفير السيولة في أسواق الائتمان وإعلان الحكومة على حزم مالية تحفيزية مختلفة لتوفير الدعم العام للشركات في اجتياز الأزمة الحالية إلا أن هناك احتمالية قائمة بأن يتم تخفيض التصنيف الائتماني لبعض الشركات نتيجة لانخفاض التدفقات النقدية و تعزز هذه الاحتمالية بأن يصبح الحصول على القروض للشركات المتضررة باهظ الثمن أو صعب التحقيق.
بعيداً عن المسؤوليات المالية المختلفة للمدراء الماليين، فقد أجبرتهم جائحة كورونا على مراقبة المخاطر الناشئة والغير المسبوقة خلال التعامل مع هذه الأزمة. و لهذا السبب يتعين عليهم مهمة ضمان الإشراف والمراقبة والإدارة المثلى للمخاطر الناجمة عن أزمة انتشار فيروس كورونا.
و يتم ذلك بشكل أوسع و أكبر من مجرد الإتجاه نحو التحول الرقمي للمؤسسة، حيث يجب ملائمة و تكييف عمليات التمويل و جميع العمليات القائمة داخل المؤسسة وتوسيع نطاقها للتعامل مع نقص و اضطرابات الطلب خلال أزمة الوباء الحالي. و يحتاج المدراء الماليين بشكل رئيسي إلى مراعاة كل ما هو بحاجة إلى التغيير في أساليب عمل المؤسسة وتحديد الفرص الناشئة التي يمكن للمؤسسة الاستفادة منها أثناء التعامل مع الأزمة.
يتخذ المدراء الماليين مجموعة متنوعة من التدابير لمواجهة أزمة انتشار فيروس كورونا. يتمثل بعضها في الاستعداد لاحتمالية إصابة الموظفين الرئيسيين بما فيهم المدير المالي نفسه داخل المؤسسة بفيروس كورونا. ومايرافقها من تأثيرات سلبية تتمثل في عدم قدرة الموظفين على العمل أو القيام بواجباتهم لفترات معينة.
على سبيل المثال يشكل غياب موظفي الإدارة العليا وعدم القدرة على أداء الواجبات البالغة الاهمية والقرارات المستعجلة في المؤسسة تحدي كبير، يفرض على المدراء الماليين وضع تدابير تضمن استمرارية الأعمال والعمليات داخل المؤسسة مثل إعادة تعيين أعضاء آخرين من طاقم العمل لسد الفراغات وإعادة هيكلة بروتوكولات الوصول إلى الملفات الهامة في المؤسسة.
ومن ناحية أخرى تؤكد إرشادات البقاء في المنزل وإتباع معايير التباعد الاجتماعي على الأهمية المتنامية لحاجة المؤسسات إلى تبني التحول الرقمي في عملياتها. و التعاون المستمر مع أقسام الموارد البشرية وتكنولوجيا المعلومات، حيث يحتاج المدير المالي إلى تحديد الاستراتيجيات الضرورية التي يمكن أن تساعد الموظفين على التواصل عبر الإنترنت وتعزيز مشاركة فريق العمل بشكل عام.
و قد تفتقر العديد من الشركات إلى بنية حقيقية تمكنها من الوصول الفعلي إلى الأنظمة والبيانات المهمة. و لهذا السبب يحتاج المدراء الماليين إلى التعاون مع مدراء تقنية المعلومات في المؤسسة لتطوير أساليب الوصول إلى الأنظمة والمعلومات الأساسية عن بُعد مع الأخذ بعين الاعتبار الحماية ضد مخاطر الأمن السيبراني.
و بالنسبة للشركات العاملة في قطاعات مثل العقارات والبناء، قد يكون من الصعب لبعض أعضاء فريق العمل القيام بواجباتهم من المنزل. و من هنا تأتي أهمية و ضرورة إتباع استراتيجيات جديدة ضمن مكان العمل من شأنها ضمان إتباع معايير التباعد الاجتماعي والتعامل الآمن مع المواد والتعقيم الفعال لمكان العمل.
و يعتبر أداء المدراء الماليين حجر الزاوية لضمان فعالية هذه التدابير من خلال التخطيط وتوفير الموارد اللازمة لتسهيل إعادة هيكلة و بناء مؤسساتهم.
يرى كيفين دانسي ( Kevin Dancey ) الرئيس التنفيذي للاتحاد الدولي للمحاسبين، أن جائحة كورونا قد وضعت المدراء الماليين في حالة مواجهة مع تقليص الميزانيات العمومية بالإضافة الى زيادة المخاطر والتحديات التي تواجه سلاسل التوريد.
و تعد الحلول القصيرة المدى في هذه الحالة ضرورية للحفاظ على عمل الشركات و إبقاء الموظفين في جدول الرواتب. و يشدد تقرير ل Deloitte على أهمية المدراء الماليين في تحليل نماذج التدفق النقدي و الذي من شأنه تحديد وضع السيولة المالية التي تمتلكها الشركة في ظل الظروف الحالية الصعبة التي تعاني منها الشركات بشكل عام . و تعد هذه الخطوة بالغة الاهمية، خاصة في أوقات الأزمات الاقتصادية او الكساد الاقتصادي حيث ترنح الشركات تحت ضغط مقدراتها أو حدودها المالية.
و مع إعلان الحكومات عن حزم تحفيزية لدعم الشركات المتعثرة خلال الأزمة الحالية، يتطلع المدراء الماليين إلى مراجعة موارد التمويل والسيولة لديهم في سبيل إيجاد التسهيلات الائتمانية المناسبة. ومن هنا تأتي أهمية اتباع المدير المالي لخطوات استباقية مع الممولين للسعي إلى الحصول على إعفاءات والاطلاع المستمر على القضايا و المشاكل المحتملة كخرق الاتفاقيات المالية مثلاً.
كما يمكن للمدراء الماليين أيضاً السعي إلى توسيع شبكة مصادر التمويل الخاصة بهم لتأمين مصادر ائتمانية إضافية في حال تعذر إمكانية الحصول على قروض مصرفية جديدة في ظل الشروط المعقدة الحالية. حيث يتعين على المدراء الماليين في المدى القصير التفكير في الاستفادة من القروض والمنح الحكومية ومشتريات البنك المركزي للسندات لدعم وصولهم إلى السيولة المالية.
ومن الخطوات الضرورية الأخرى التي يجب اتخاذها في هذا السياق هي مراقبة وضبط المستحقات (الديون). عادةً ما يسعى العملاء والموردون إلى تمديد فترات الدفع عندما يواجهون تحديات في التدفق النقدي والائتمان. حيث يمكن أن تلعب إدارة المستحقات بشكل استباقي والتعامل السريع مع النزاعات دوراً أساسياً في إدارة مخاطر التخلف عن الدفع أو التأخر في الدفع. وبالتالي يتوجب على المدراء الماليين العمل مع الإدارات ذات الصلة مثل الائتمان والتحصيل لمراقبة وضمان التدفق النقدي القوي والذي سيكون له دور وتأثير إيجابي على الإيرادات.
وكبديلاً عن ذلك، يمكن للمدراء الماليين اختيار الحصول على تدفق نقدي أكبر من خلال تمديد شروط الدفع للموردين.
إذا كان هناك تساؤلات حول أهمية أداء المدراء الماليين داخل المؤسسات و المنظمات، فإن الأزمة العالمية الحالية تثبت و تسلط الضوء بقوة على حقيقة أن مركزهم و موقعهم في المؤسسة لا يقتصر على عمليات المحاسبة فقط.
حيث أصبحت مشاركة المدراء الماليين في إدارة المخاطر التي تواجهها أعمالهم الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. وذلك نظراً لإتجاه الشركات إلى التحول الرقمي في أعمالها و عملياتها وتوفير نقاط وصول خارجية إضافية لأنظمتها، والذي يؤدي الى زيادة احتمالية التعرض لمخاطر الإنترنت مثل سرقة البيانات والبرامج الخبيثة والهجمات الأخرى. حيث تمثل الرقابة والاستثمار في الأمن السيبراني بعض الاستراتيجيات الهامة التي يمكن اعتمادها لتجنب هذا النوع من المخاطر
ومع ذلك، نظراً لضبابية الرؤية فيما يخص أزمة انتشار فيروس كورونا و المدة المتوقعة لاستمرارها والعواقب الاقتصادية التي قد تنجم عنها، والتي تضع المدراء الماليين في حالة عدم يقين بالمخاطر التي قد تنشأ في المستقبل. يُنصح المدراء الماليين هنا بالمشاركة المستمرة في وضع الخطط اللازمة لتحديد وتقييم نوع المخاطر التي يمكن تؤثر بشكل كبير على سير أعمالهم.
وبطبيعة الحال، قد توجد بعض المخاطر التي يصعب توقعها أو تجنبها بسهولة. وفي مثل هذه الحالات تعتبر السيولة المالية و التحرك الذكي ضرورة أساسية في تكوين رد فعل مناسب لمواجهة هذه المخاطر. حيث يشكل الحصول على وثائق التأمين المخصصة والمناسبة والتي تركز على مساعدة الشركات في تجاوز المخاطر الناجمة عن حالة عدم اليقين المرافقة لأزمة انتشار فيروس كورونا إحدى أهم الطرق التي يمكن للشركات من خلالها ضمان السيولة الضرورية لمعالجة المخاطر غير المتوقعة.
غالباً ما توفر الأزمات الطارئة الوقت المثالي لإعادة هيكلة و بناء أجزاء العمل التي تحتاج إلى التغيير. ولا تختلف أزمة انتشار فيروس كورونا كثيراً من حيث المبدأ. حيث أتاحت للمدراء الماليين والموظفين الإداريين في المؤسسات اعتماد عقلية التغيير فيما يتعلق بتحديد الأهداف أو إدارة الأعمال و الوظائف أو إنشاء الميزانيات.
حيث يجب أن يبدأ فريق الإدارة المالية في مراجعة الملفات والوثائق المالية، مع التركيز على تحقيق الإمكانات الكاملة في كل قسم من أقسام الشركة. و استكشاف استراتيجيات التغيير التي يمكن أن تعزز الدخل أو تقلل النفقات بنسبة تصل إلى 30% أو 40%
على سبيل المثال، يمكن للمدراء الماليين قيادة الاستراتيجيات التنفيذية التي تركز على تحقيق تطوير في الأداء خلال المدى القريب. كتحسين موارد الدخل، حيث يمكن للمدير المالي أن يدعم تطوير منتجات وخدمات جديدة. كما يمكنه أن يعيد توزيع المصادر و الموارد إلى الإدارات أو الأقسام ذات مصادر الدخل القوية حالياً ويطور استخدام المؤسسة لأساليب البيع البديلة وطرق تسليم المنتجات أو الخدمات، كالتجارة الإلكترونية مثلاً.
و مع وجود نسبة كبيرة من العالم التي لا تزال في حالة إغلاق وتراجع الطلب على السلع والخدمات ، تأتي ضرورة أن يتبنى المدراء الماليين تدابير صارمة تركز على تقليل نفقات العمل. مع أهمية مراعاة مساحة للمرونة بالإضافة إلى موازنة هذه التخفيضات في النفقات مع الحاجة في نهاية المطاف إلى استعادة العمليات الطبيعية في المؤسسة عند تعافي الاقتصاد. وفي الوقت ذاته، يمكن للمدراء الماليين أيضاً إدخال بعض الدقة في إدارة الإنفاق العام من خلال إعداد ميزانية على أساس الصفر لجميع النفقات الغير الإلزامية، مثل الشراء غير المباشر.